top of page
Search
رولا صبيح

على هذه الأرض من يتمنى الحياة


لم أرى جارتي العجوز منذ أيام، فلقد اعتدت رؤويتها برفقة كلبها كل صباح، ممسكة بعكازها، تلفت نظري أناقتها التي لا تفارقها، فأخر مرة رأيتها شعرت ان هذه السيدة قد جاءت من اربعينات القرن الماضي، تلبس فستان اسود يصل طوله لركبتيها، وتلف حول رقبتها وشاح حريري من اللون الاحمر القرمزي، شعرها الاشقر مصفف بعناية، وبشرتها البيضاء المليئة بالتجاعيد التي حفرها على وجهها الزمن مزينة بحمرة للخدود بلون وردي فاتح، وشفتيها لا تفارقهم اللون الاحمر الداكن، تحلي اصابعها بخواتم من الالماس الناصع، تابعتها عبر النافذة، وقلت لنفسي كيف لسيدة في متوسط الثمانين ان تحافظ هكذا على رشاقتها، وكيف لم تسرق الايام منها حسن مظهرها، ابتسمت وحسدت كلبها الابيض الصغير على سيدته. وفي النهار يزورها ابنها الذي يشبها في كل شيء حتى شعرة الابيض مصفف بعناية كشعر أمه، يأتي لسويعات ثم يغادر، ولا يبقى برفقتها إلا ممرضة تجالسها اغلب الاوقات. وعندما طال غياب جارتي مارغريت لاكثر من اسبوع، قررت ان اقتحم عليها وحدتها، طرقت بابها لتستقبلني مرافقتها، ونباح كلبها، وتغريد عصافيرها، وفي منتصف الحجرة تجلس قطتها البيضاء في كسل، وصلت الى حجرتها، لاجدها جالسة في فراشها، في لباس للنوم، وجهها شاحب، وشعرها اشعث. استقبلتني بصوت يرتعش، وابتسامة بالكاد استطاعت أن ترسمها على محياها، عرفت حينها ان أيامها في الحياة اصبحت معدودة، قبلت وجنيتها وامسكت بيدها، وقلت لقد افتقدتك كثيراً، ابتسمت بحزن وقالت، ملاك الموت ضل طريقه إلي، توسعت عيناي دهشة من كلماتها، نظرت إلي بعمق واكملت، كيف لمن يخطف الارواح ان يكون ملاكاً، كيف لمن يفترس قلب طفل وينتزع منه الحياة أن يكون ملاكاً، كيف لمن يتربص للبشر في العتمة ليسرق أعمارهم ان يكون ملاكاً، فقلت لها إلا تؤمنين بالأقدار، لكل منا فترة يقضيها على الارض ثم يرحل إلى عالم أخر، فقالت ومن الذي يقرر المدة التي علينا ان نعيشها، وما هو العالم الاخر، فقلت لا افهمك، فأجابت لقد زار ملاك الموت حفيدي ليزهق روحه في ثواني، وكنت أنا جالسة بقربه أعاني من المرض والوحدة، فلماذا لم تمتد يده لروحي لتخطفها وترك شاب في عمر الورود، قضى حياته التي لم تتجاوز الخمسة عشرون عاماً في أعداد نفسه لمعترك الحياة، ساد صمت بعد كلماتها هذه خانق، لتحتضن صور حفيدها التي تحتفظ بها تحت وسادتها، قلبي يعتصر وهي تستعرض لي مراحل حياته، لم استطع حبس دموعي، ودعتها بأن احتضنتها وقبلت يداها وتركتها وحدها في عذابها.

خرجت من بيتها احمل بداخلي نقمتها على الموت، مشيت على غير هدى، وكلماتها تتردد في أذني لتفتح في رأسي شاشة كبيرة استعرضت لي حال البشر، كهول ينتظرون نهايتهم التي لا تأتي، وشباب يفاجئهم الموت في ريعانهم، يدق أبوابهم دون أستذان. فمن قال أن لهذه الحياة قاعدة أو نظام، كيف لي أن اصل لملاك الموت واعقد معه اتفاق، أن لا يأتي إلا حين اطلبه، أن لا يتطفل على حياتي حينما يشاء. وصلت الى مفترق الطريق، التفت يميناً ويساراً، انظر ان كانت ستفاجئني سيارة يقودها ملاك الموت يسحقني بها تحت عجلاته، وصلت الى البحر ولم اقترب، خفت ان يكون الموت مختبأ لي في موجة تسحبني الى اعماق البحر لتأكلني أسماكه، فيطول عمرها إلى أن يأتي من يصطادها فتنتهي حياة تلك الاسماك بشبكة تتعلق بها البقية الباقية من روحي، وقفت اصرخ بعلو صوتي أنادي على ملاك الموت ، انظر إلى أعلى وصراخي لا يتوقف إلى ان ظهرت لي سحابة سوداء تفترش بقعة من السماء، تقترب من الارض غاضبة، فقلت لنفسي ها هو ملاك الموت قادم للمواجهة، فقلت له، كيف لملاك أن يحمل في قلبه كل هذا السواد، لماذا كلما ضاقت عليك السماء صببت غضبك على من يسكن على هذه الارض، فنقمتك على البشر لا تجعلك تفرق بين اعمارهم. على رويدك وانتقي ضحاياك فليس كل من تختاره يتمنى ان ينتقل إلى عالمك، فعلى هذه الارض من يتمنى الحياة.

عدت الى بيتي مثقلة بالافكار، لاجد جارتي العجوز برفقة كلبها، بكامل أناقتها، نظرت إلى حالي، اقتربت مني ورسمت على وجهها إبتسامة شاحبة، وقالت: يا عزيزتي ، انقشعت السحابة، وعادت الشمس لمنتصف السماء، استمتعي بما تقدمه لكِ الحياة...


66 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page