top of page
Search

السيدة إتوال دو مير


فور خروجه سالما من المعركة الصباحية المعتادة بينه وبين زوجته ، يغلق الباب ويخطو مسرعا نحو الخارج ويقف للحظة ليتأكد من سلامة هيئته ويتحسس جسده ، وحينما يطمئن أن كل شيء على ما يرام ينظر إلى السماء ملقيا التحية قائلا: " بونجورنو ديو '' .

لم يرزق منها بأطفال ولكنه يعشقها رغم سوء معاملتها له أمام الجيران .. فقد إعتاد منها إفتعال المشاجرات كل صباح بغير سبب على الأرجح ، ليتجاهلها تماما ويتفادى بإحترافية شديدة بعض الأدوات المنزلية الطائرة فى كثير من الأحيان ، فيتأكد أنه آن الأوان ليسرع فى الخروج من المنزل .. وحينما يجدها صامته فى الصباح أو شاردة الذهن على غير عادتها ، يفعل تلك الأشياء التى تثير جنون الزوجات ويعلمها الرجال تماما فتثور ثائرتها بشكل أو بآخر وتبدأ فى الصراخ ، فيطمئن أنها لازالت بخير ويغادر المنزل إلى عمله .. صارت العادة أن تودعه فى الصباح بالصرخات واللعنات ليعود فى المساء وقد عادت كنسمة صيف مبهجة .

خرج إلى الشارع بهيئته الإيطالية المحببة وإذ بفتى الجرائد يركب دراجته ويهم بالمغادرة ، فأشار إليه دون صوت متسائلا عن جريدته ، نظر الفتى إلى الأعلى كأنه يحذره ويجيبه على سؤاله فى ذات الوقت .. نظر إلى الأعلى فوجد زوجته بكل عفويتها وعنفوانها الصباحي وقد رفعت شعرها للأعلى بطريقة عشوائية بإستخدام قلم رصاص .. تقف على قدم وتضرب الأرض بالأخرى ، ممسكة بمنفضة التراب بيدها المعقوفة على وسطها وتحرك الجريدة بيدها الأخرى بطريقة بندولية .. سرعان ما قذفتها بحركة مباغتة تماما وانهالت صراخا ووعيدا بلكنة إيطالية من شرفة منزلها تحرك كلتا يديها بإنفعال وتناغم .. إعتاد عليها الجيران إذا أخذنا فى الإعتبار أنها كانت مغنية فى الأوبرا أيام شبابها .

انحنى '' ألبرتو " إلى الأرض ليتناول الجريدة التى كادت تصيبه لولا براعته في تفاديها قائلا : " أووه كدت أنسى ، شكرا عزيزتي "ومضى في طريقه مستقبلا المارة والجيران بإيماءة من الرأس وإبتسامة عريضة ..

يعيش ألبرتو في منزل خشبي بمنتصف شارع " فرانسوا جوزيف " الموازي للميناء والذي يربط بين النافي هاوس جنوبا " مبنى الهيئة الحالي '' ونافورة الملكة فيكتوريا والفنار القديم شمالا والذى تقبع خلفه السلخانة حيث يعمل .

لا يتوقف كثيرا أثناء سيره إلا لتحية أصحاب الشركات والبارات على الجانب الآخر من الطريق أو ليرفع قبعته البيضاء بإبتسامة عريضة لمرور سيدة جميلة .. على يمينه تتراقص مراكب البمبوطية والصيادين المتراصة أمام رصيف الميناء الخشبي ، ولا تسمع سوى صوت تحيات لطيفة بين المارة فى الشارع يتخللها صوت قرع الخيول بحوافرها على بلاط الشارع المصنوع من البازلت أو أجراس الترام بين الحين والآخر.

عاش نصف عمره في تلك السلخانة يستقبل المواشي من الشام وجنوب مصر ليقدم للسفن العابرة للمجرى الملاحي أجود أنواع اللحوم .

ألبرتو فيفالدي .. هو أحد البيطريين المهرة .. بلغ الأربعون عاما ولازال محتفظا بشبابه وأناقته ، أتى إلى مصر بحثا عن الثروة ، عمل فى بادئ الأمر لدى أحد الإقطاعيين الكبار فى الدولة ، ولد ألبرتو فى شمال إيطاليا بإقليم سافوي على الحدود الفرنسية السويسرية المشتركة منتصف القرن الثامن عشر الميلادي لأبوين كادحين .. لم يرث من والده سوى إسم العائلة العريق " فيفالدي '' ويتحاشى دائما ذكر مهنة أبيه كإسكافي حين يسأله أحدهم فى أي مناسبة .. إلا أنه لازال ممتنا لذلك الرجل ويتذكر جيدا كيف كان يعكف فى حانوته الصغير بأحد ضواحي البلدة ، كان الحانوت ذو أرفف كثيرة مليئة بالجلود ، إضاءته الخافته سببها تسليط ضوء المصباح الوحيد على نجمة بحر حمراء معلقة فوق الباب ووالده يجلس تحتها بظهره الذى حناه الزمن منهمكا فى عمله .

لم تمكث أمه على قيد الحياة كثيرا بعد وفاة أبيه ، فصار وحيدا وإضطر لبيع الحانوت والمنزل وبعض الأثاث المتواضع والكثير من الذكريات .. إنتقل إلى مدينة " ليون " الفرنسية ، لم يمضى الكثير من الوقت حتى إعتاد الحياة فيها وكون العديد من الصداقات وإنخرط بين أثريائها وفقرائها على السواء .. فى السنة الأولى لإنتقاله سمع بإفتتاح أول كلية للطب البيطري فإلتحق بها وكان ممن برعوا فيها وهم قلة آنذاك .. وبإنتهاء الدراسة وتخرج أول دفعة من البيطريين ، إنهالت عليهم عروض للعمل من كل مكان ، كان من بينها عرض قدمه أحد الأعيان فى مصر .. كانت مصر فى ذلك العهد مقصدا لأصحاب المهارات فى مختلف المجالات ممن يبحثون عن الثراء .. عقب وصوله إلى مصر بفترة قصيرة إلتقى زوجته " سابرينا " فى صالون الأميرة " نازلي فاضل " الذى شهد العديد من السجالات بين الأدباء والسياسيين والتى كان يستمتع بحضورها نظرا لإتقانهم الفرنسية جميعا .. حضرت سابرينا إلى مصر لتغني في حفل إفتتاح القنال وتزوجت ومكثت فيها برفقة ألبرتو وإعتزلت الغناء .

عقب زواجه بفترة قصيرة إستدعاه " عبدالعال باشا الدسوقي " وأخبره بأنه قرر تعيينه مشرفا بيطريا على السلخانة بمديرية القنال الجديدة والتى تم إنشاؤها لتزويد السفن العابرة بما يلزمها من اللحوم الطازجة التى يتم جلب مواشيها من الشام وجنوب مصر .

وبالفعل إنتقل ألبرتو مع زوجته سابرينا إلى مقر عمله الجديد بمحافظة بورسعيد فى بيت خشبي مطل على الميناء بمنتصف شارع فرانسوا جوزيف " سمي بشارع فلسطين في وقت لاحق ومعروف حاليا بممشى المعدية السياحي " .. اكثر ما يميز هذا الشارع هو إطلالته الأوروبية في كل مبانيه من فنادق وبارات وشركات ، والذى إعتاد ألبرتو أن يقطعه سيرا على قدميه كل يوم ذهابا وإيابا من عمله ، توالت الأيام وظل ألبرتو على حاله إلى أن إنتهت أيام الملك وتولى الحكم رجال من الجيش إثر ثورة قام بها الشعب .

وفى أحد الأيام وبرغم أن الصباح كان إعتياديا لدرجة كبيرة ، لم تتوقع سابرينا عودة ألبرتو مبكرا عن المعتاد وكأن أصابه الجنون .. بمجرد أن رآها أمامه أمرها بجمع أغراضهما الضرورية وأن تعد نفسها للسفر على وجه السرعة .. كان صوته العالي وإسلوبه الهيستيري ينذران بحلول كارثة ، وكأن حربا قد نشبت ، لم يدع لها مجالا للتفكير فامتثلت لأوامره .. بينما تجرع هو عدة كؤوس من البراندى وظل ممسكا بغليونه ويميل بالكرسي للأمام والخلف وعيناه مثبتتان على نجمة البحر الحمراء المعلقة على الجدار أمامه .. ظل على تلك الحالة عدة ساعات قبل أن تسأله سابرينا عما حدث بهدوء ، فأجابها وقد تحول وجهه إلى اللون البنفسجي :" جنرال يدعى قاسم يريدني أن أشرف على سلخانة حمير ليبيع لحومها للمصريين " قالها ولازالت عينيه مثبته على نجمة البحر ، وبينما تبحث سابرينا عن كلمات لطيفة تواسيه بها وتهدئ من روعه سقطت زجاجة البراندى من يده ومال رأسه على صدره بهدوء وغليونه لازال ملتصقا بشفتيه ..

ومات ..

تم دفنه فى مقابر الأجانب وقررت سابرينا بعد وفاته بعدة أيام بيع المنزل وشراء آخر على الشاطئ بعيدا عن زحام المدينة والميناء .

مرت أشهر قليلة قبل أن تكتشف أرملة فيفالدي أنها تحمل فى أحشاءها جنينا منه ، كانت تقف أمام المرآة بالساعات تنظر إلى بطنها المنتفخ بلهفة وأمل رغم أوجاعها لفراق ألبرتو ، تحتضن نفسها وتسمعه يهمس فى أذنيها بكلماته الرقيقة فتقشعر رقبتها من أنفاسه وهى مغمضة العينين كأنه مازال حيا .

قامت بتغيير ديكور المنزل الجديد وأعادت تصميمه على الطراز الفرنسي لإستقبال مولودها الأول .. ووضعت نجمة البحر على المدخل الخشبي الأمامي للمنزل ، وجهزت غرفة ذات ألوان زاهية بالألعاب والدمي الكثيرة تقضي فيها الساعات الطوال تحدث من في بطنها عن تفكيرها فى الموت لولا أن السماء أرسلتها فى الوقت المناسب لتجد شيئا تعيش لأجله .

.. حينما آن أوان الميلاد قام جارها العجوز بإيصالها لمستشفى " الدليفراند " لتضع مولودها المنتظر .. فور إفاقتها وإمساكها لطفلتها بين يديها قامت بفحص أصابع يديها وقدميها للتأكد من سلامتها ، ثم أغمضت عينيها وتمتمت بالشكر للإله .

في تلك اللحظة التي نظرت فيها لوجه صغيرتها البرئ وجدتها تبتسم وتلوح بكف يدها الأحمر الصغير قررت تسميتها بنجمة البحر بالفرنسية .

لم تكن سابرينا فرنسية وإنما عشقها لمدينة " ليون " التى جعلت من زوجها بيطريا ولديها فيها ذكريات لم تستطع نسيانها ..

ففي الثامن من كانون الأول حينما وصلا إلى المدينة كانا قد قررا إتمام زواجهما فى كاتدرائية" نوتردام دى فورفير " وفور إنتهاء مراسم الزواج وجدوا أنفسهم يسيرون فى طرقات المدينة وحولهم أهلها جميعا بالأضواء

والشموع ، ظلوا يتراقصون ويضحكون طيلة الليل .. وظنوا أنها علامة من السيدة العذراء صاحبة الإحتفال بمباركة زواجهم .. هى مدينة تدفعك للإحتفال والشعور بالحرية ، ولذلك قررا تسمية أول مولود لهم بإسم فرنسي .

عاشت " إتوال دو مير " سنوات حياتها دون تعكير صفو .. فتاة الشاطئ المدللة ، محبوبة لكل من حولها ليس لسمعة أبيها الراحل الطيبة وإنما لجمال إبتسامتها وإسلوبها الممتع فى الحديث ، إذ ورثت فطنة أبيها وتعاملت معها أمها كشخص ناضج تتحاور معها منذ نعومة أظافرها مما أكسبها نضجا مبكرا ملحوظا ..

لم ترتبط فى شبابها بأي علاقة مع الجنس الآخر إذ كانت كثيرة القراءة والرسم تتميز بشخصية قوية أرهقت أقرانها من الشباب .. أغلب ملابسها رياضية حركتها خفيفة .. تلبس طوقا أحمر يمنع شعرها من السقوط على عينيها برغم عدم وصوله لكتفيها ، فهى إن شئت أشبه ما تكون بالفتيان منها بأنثى بارعة الجمال رغم ملامح وجهها الرائعة والدقيقة ، إلا أنها تخفي أنوثتها وجمالها بإسلوبها الذكوري الناعم .

لم تكن إتوال بارعة فى شئ قدر براعتها في الرسم .. كانت ترسم طوال الوقت ، أذكر جيدا ملامحها من خلف النوافذ الزجاجية وهى تزيح طوق رأسها إلى الخلف بينما ترسم ، وانا أقف صغيرا وحيدا تحت أمطار الشتاء لا أعلم أي أقدار أرسلتني إليها ، لتقوم برعايتي منذ طفولتي والإهتمام بى وتعليمي ثلاث لغات .. والآن بعد كل تلك السنوات الرائعة التى قضيتها أستمع فيها إلى قصة أبويها ومشاركتها أحزانها بعد وفاة سابرينا ودفنها برفقة زوجها بمقابر الأجانب أستطيع أن أقول أنها عاشت لرعاية الفقراء والرسم وتحول المنزل مع الأيام إلى مقهى على الشاطئ ملئ باللوحات والذكريات أغلب رواده من المثقفين والأدباء.

كم أرغب وفاءا لتلك السيدة أن أرسل بعض لوحاتها إلى متحف قصر سانت بيير ، لقد توفيت السيدة إتوال فى أيلول الماضي وقمت بدفنها فى الحديقة الخلفية التى أثمرت وكثرت أشجارها منذ ذلك الحين ، فى الصباح الباكر من كل يوم يأتي ثلاثة من الهداهد ينظرون لى بطريقة عجيبة .. أعتقد أنها أرواح عائلة السيد ألبرتو فيفالدي .

كتبت إليكم قصة تلك العائلة التى أحمل ذكرياتها فى صدري قضاءا لدين لن أستطيع وفاءه ، لأن الجنرال أحمد قاسم المسؤل عن تطوير الشاطئ قرر إزالة الجانب الغربي من المنزل القديم والمعلق على بابه الخشبي الأمامي نجمة البحر الحمراء التي يقارب عمرها المائة وخمسون عاما وفى الجزء الخلفى من ذلك المبنى توجد الحديقة الموجود بها رفات السيدة إتوال دو مير وبعض الصناديق الخشبية التى جمعت فيها لوحاتها وتذكارات عائلة فيفالدي .

أرجوا منكم جميعا الحضور بالورود والشموع تضامنا معى لعدم إهانة ذكرى تلك العائلة العريقة ..

من خلف مسجد الشاطئ

كافيه إتوال دو مير

بورسعيد


68 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page